
الجدال والنقد العمليُّ وإن كان يبدو لأول النظر عملية نظرية ذهنية مجردة عن الواقع، إلا أنه في الحقيقة فاعل قويٌّ في التغيير الاجتماعي تبعا لما ينتج عنه من تأثيرات في نفوس الناس، وتصرفاتُهم كما لا يخفى تابعةٌ لما يحْدُثُ فيهم من آراء وأفكار.
وكما رأينا مظاهر متنوعة من نتائج العملية الجدلية النقدية التي بدأت منذ فترة على أيدي العلماء وطلاب العلم من مختلف المصاقع والبلاد، وهي ما زالت مستمرة مع أتباع ابن تيمية ومن يوافقهم، وما حصل فيها من تغيرات على كثيرين ممن ينتسبون إليهم عبر السنوات، وأظهرت كثيرا من الانقسامات بينهم، وتمكن بناءً عليها كثيرٌ منهم من أن ينتقلوا مما كانوا عليها إلى حالة جديدة، مما يستحق أن يكتب فيه مقال وصفي تحليلي يكون شاهداً على هذا الزمان ليكون عبرة للناس في المستقبل.
وهذه العملية تتسم في الحقيقة بعمق ودقة يقصر كثير من الناس عن أن يعوها أول الأمر، ولذلك نرى هنا وهنا بعض التحليلات السخيفة التي لا تعبر إلا عن حالة من كتبها، ونحن نعلم أن أهل العدالة والصدق والبحث غير المنحاز للهوى سيسلمون لها حالما تنكشف لهم دقة بحوثها وسلامة أغراضها، وهو ما يحصل حاليا بالفعل، كما أنهم يعلمون صدق القائمين عليها مع أنفسهم ومع غيرهم، وسوف يقوم كثير من الصادقين من المشايخ وطلاب العلم بما أوجب عليهم الله تعالى عندئذ بإذن الله تعالى من اتخاذ الموقف الصادق السليم المتسق مع أصل الشريعة ظاهرا وباطناً. وهذا التواؤم الذي نشير إليه هو المعبر في الحقيقة عن البناء العلمي الصحيح الخالي من التناقضات، كما يعبر عن سلامة الموقف العمليّ والسلوك الإحسانيَّ المبني على التزكية الشرعية الصحيحة هو الذي يفتح الأبواب الحقيقية المحققة لتكامل درجة الإحسان المعتبرة عند أهل السنة والجماعة.
وأيضا فإن هذه العملية النقدية المتعددة الأبعاد كما فتحت الباب لكثير من المشايخ الذين ينتسبون لأهل السنة لمعرفة مدى التباعد في بعض الأصول بين مذهب ابن تيمية ومذهب أهل السنة، وفتحت الباب لكثير من الذين كانوا تابعين لابن تيمية ولمذهب الوهابية للولوج إلى مذهب أهل السنة والجماعة مذهب أهل الحقّ معتمدين على ظهور كثير من انحرافات ما كانوا عليه من اعتقاد إما لقصور بحث أو اعتمادا على حسن ظنهم بصاحب المذهب، وكما أظهرت هذه العملية التناقضات العديدة في دعوى أتباع هذا المذهب كزعمهم أنهم لا يقولون إلا بما قال به السلف، وأنهم صورة صادقة عن التعاليم القرآنية والدينية في العقيدة والفقه والسلوك إلى آخر ما كانوا يدعونه عند العوام والخواص،
وبعد إعادة النظر والتنقيح في دعاويهم، فقد تبين مدى التباعد بينهم وبين السلف في كثير من المقولات العقدية.
وهذا كله يؤثر كما هو معلوم في واقع المذاهب وأتباعها.
وكذلك فإن هذه العملية النقدية المسلطة على نتاج مجموعة من الآراء بموضوعية وعمق كافيين، نتوقع أن تظهر مدى التخالف بين هذه الآراء موضوع البحث وبين مذهب أهل السنة، وسيتبين أيضاً ما بين هذه الأطراف من اتفاقات.
وهذه التجليات والمظاهر النظرية والعملية التي نتوقع حصولها تدريجياً -بل التي بدأت بالفعل منذ مدة- سوف يكون لها أثر قويٌّ في التمييز بين حقيقة مذهب أهل السنة وبين غيرهم ممن يشكلون في حقيقة الأمر عائقا أمام هذا المذهب عن الفاعلية الحقيقية في المجتمعات والنفوس، بما يعملون عليه من قوى معارضة وجهود تشتيتٍ داخليةٍ وخارجية بطرق ظاهره وأخرى غير ظاهرة لكثير من الناس. وبقاؤهم على هذه الصورة غير الطبيعية مؤذٍ لمذهب أهل السنة أيما إيذاء.
ونحن بما نقوم به مع كثير من المشايخ وطلاب العلم الذين يوافقوننا في هذه الرؤية، نساعد هؤلاء في الحقيقة ليكونوا أصدق مع أنفسهم ومع غيرهم في الإعلان عن أنفسهم، وسيترتب على هذه الجهود اختصار الزمان علينا وعليهم لكشف حقائقهم، وهذا يمكننا ويمكنهم من بناء التعامل اللائق بحسب الحقيقة. فإن المخاتلة التي يعيش فيها كثير من الناس تؤذي نفوسهم من حيث لا يشعرون، كما تؤذي غيرهم، وما أعظم أجرَ الصادقين. وإن نتاج هذه العملية النقدية الجادة سيكون له أعظم أثر في هذا الجيل المعاصر، وسيمهد بناء القواعد القوية الأركان للأجيال القادمة لإكمال البناء العظيم، واستئناف إظهار ما أقامه الأعلام المعتبرون من أهل السنة والجماعة.
وأقربُ الناس إلى الإيمان الحقِّ هم الذين يصدقون مع أنفسهم، فالصدق خلق لا يتمكن كثير من الناس التخلق به، وهو أساس الإحسان الذي ينتسب إليه بعض الناس وهم عنه عراء، فكيف يكون إحسانٌ بلا صدقٍ!؟
وما نقوم به من عمليات نقدية مع من يشاركوننا في ذلك هو في الحقيقة ممارسة واقعية لوظيفة المتكلمين وعلماء التوحيد في الكشف عن الآراء والتمييز بين المذاهب ليتمكن كل واحد من العمل بحسب حقيقته، وهو عملية مضادة لما يبرع به أتباع بعض المذاهب من الحرص على إبقاء حالة الخلط والتشغيب والمخاتلة وعدم الوضوح التي تساعدهم في التلون وتمرير معتقداتهم ورؤيتهم الخاصة تدريجياً.
وهذا العمل في حقيقته هو استمرار لما كان يقوم به أعلام المتكلمين عبر القرون، واستئنافه بكل قوة وجدية هو الكفيل بتغيير كثير من مظاهر الكساد والضعف والتخلخل التي نراها، مما نعتقد أنه سيكون أحد المبشرات لانطلاقة جديدة لأهل السنة والجماعة في هذا العالم ستمكنهم من أن يضعوا بصمتهم الصادقة بصورة أقوى في الأفعال المحركة للحياة الواقعية في المستقبل بإذن الله تعالى وسيتكامل ظهور هذه الآثار العظيمة كلما تكاملت دائرة التمييز والنقد لشتى المذاهب عند العقلاء، وطلاب العلم، والباحثين الجادين في الآراء والمذاهب الفاعلة في مواقف أفراد الجنس الإنساني وجماعاته.